المادة    
أول ما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجراً من مكة إلى المدينة، ظهر وصعد أحد أحبار اليهود وقال: يا بني قيلة! يا بني قيلة! هذا صاحبكم الذي تنتظرون، وهو من أحبار اليهود الذين لم يؤمنوا.
يقول: يا بني قيلة -وهم الأنصار الأوس والخزرج- هذا صاحبكم الذي تنتظرون، وما يزال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعيداً، والسراب يحول بينه وبين الناس.
فقد عرفوا أنه الحق, وعرفوا أنه هو الرسول، وأن هجرته ستكون، وأنه سيأتي من هذا الطريق، لأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فـعبد الله بن سلام رضي الله عنه وهو من أحبارهم وعلمائهم الذين نور الله قلوبهم وطلبوا الحق وأرادوه يقول: { فجئت إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو يخطب الجمعة بـقباء, وهي أول خطبة وأول جمعة في الإسلام، قال: فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب صلوات الله وسلامه عليه }.
ما هذا الوجه بوجه كذاب ولا طالب دنيا, أو طالب مال, أو شهوة, أو شهرة، فالصدق والنور واليقين يلمع من جبينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم جلس وسمعه وهو يقول: {أيها الناس! أطعموا الطعام, وصلوا الأرحام, وأفشوا السلام, وصلوا بالليل والناس نيام, تدخلوا الجنة بسلام} هذه خطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاها قلب عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
فلما استشهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على أن هذا الدين حق، كان من علماء بني إسرائيل ممن شهد بالحق، وهو هذا الرجل العالم رضي الله عنه، ومنهم من لم يشهد؟ قال تعالى: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً))[النمل:14] ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))[الأنعام:33]. وكيف لا يكذبونك؟ ألم يقولوا: إنه كذاب, وكاهن, وساحر, وشاعر، فهم لا يكذبونك، أي: لا يعتقدون في أنفسهم أنك كاذب، لكن يكذبون بأفواههم وهم يعلمون أنه الحق، فالشاهد من هذا هو: شهود من استشهد الله بهم، منهم من يقوم بالشهادة ومنهم من لا يقوم بها.